سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – قدس الله روحه – عن رجل :
كاتب الموضوع
رسالة
hichem31000 القلم الذهبي
الجنس : نقاط : 846عدد المساهمات : 276الموقع : http://algerieislam.tk/
موضوع: سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – قدس الله روحه – عن رجل : السبت سبتمبر 24, 2011 9:48 am
قال : إذا كان المسلمون مقلدين ، والنصارى مقلدين ، واليهود مقلدين ، فكيف وجه الرد على النصارى واليهود ، وإبطال مذهبهم والحالة هذه ؟ وما الدليل القاطع على تحقيق حق المسلمين ، وإبطال باطل الكافرين ؟ . فأجاب رضي الله عنه :- الحمد لله ، هذا القائل كاذب ضال في هذا القول ، وذلك أن التقليد المذموم هو قبول قول الغير بغير حجة ، كالذين ذكر الله عنهم أنهم : ﴿ إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ﴾ وقال تعالى : ﴿أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾ (البقرة : 170) وقال : ﴿إنهم ألفوا آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون﴾ (الصافات : 69،70) ، ونظائر هذا في القرآن كثير . فمن اتبع دين آبائه وأسلافه لأجل العادة التي تعودها وترك اتباع الحق الذي يجب اتباعه ، فهذا هو المقلد المذموم ، وهذه حال اليهود والنصارى ، بل أهل البدع والأهواء في هذه الأمة ، الذين اتبعوا شيوخهم ورؤساءهم في غير الحق ، كما قال تعالى ﴿ يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا . وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبرائنا فأضلونا السبيلا . ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعناً كبيراً﴾ (الأحزاب :66-68) ، وقال تعالى ﴿ويوم يعض الضالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً . يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً﴾ إلى قوله ﴿خذولاً﴾ (الفرقان : 27-29) .وقال تعالى : ﴿إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب﴾ إلى قوله ﴿وما هم بخارجين من النار﴾ (البقرة : 166-167) وقال تعالى : ﴿وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار﴾ إلى قوله : ﴿إن الله قد حكم بين العباد﴾ (غافر : 47-48) وأمثال ذلك مما فيه بيان أن من أطاع مخلوقاً في معصية الله ، كان له نصيب من هذا الذم والعقاب .والمطيع للمخلوق في معصية الله ورسوله ، إما أن يتبع الظن ، وإما أن يتبع ما يهواه ، وكثير يتبعهما .وهذه حال كل من عصى رسول الله من المشركين وأهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، ومن أهل البدع والفجور من هذه الأمة ، كما قال تعالى ﴿ إن هي إلاّ أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل لله بها من سلطان﴾ إلى قوله ﴿ولقد جاءهم من ربهم الهدى ﴾(النجم : 23) والسلطان هو الكتاب المنزل من عند الله وهو الهدى الذي جاءهم من عند الله كما قال تعالى ﴿أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون﴾ (الروم : 35) وقال : ﴿إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم﴾ إلى قوله تعالى ﴿ببالغيه﴾ (1) (غافر : 56) .وقال لبني آدم ﴿ فإما يأتينكم مني هذاً﴾ إلى قوله تعالى ﴿ولعذاب الآخرة أشد وأبقى﴾ (طه : 123-127) .وبيان ذلك أن الشخص إما أن يبين له أن أن ما بعث الله به رسوله حق ، ويعدل عن ذلك إلى اتباع هواه ، أو يحسب أن ما هو عليه من ترك ذلك هو الحق ، فهذا متبع فهذا متبع للظن ، والأول متبع لهواه .... (2) اجتماع الأمرين : قال تعالى في صفة الأولين ﴿فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون﴾ (الانعدام : 33) وقال تعالى ﴿وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلموا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين﴾ (النمل : 14) وقال تعالى ﴿الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم﴾ إلى قوله ﴿ليكتمون الحق وهم يعلمون﴾ (البقرة : 146).وقال تعالى في صفة الأخسرين : ﴿قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً﴾ الآية (الكهف : 103) ؟ وقال تعالى ﴿أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ (فاطر : .فالأول : حال المغضوب عليهم ، الذين يعرفون الحق ولا يتبعونه ، كما هو موجود في اليهود .والثاني حال الذين يعملون بغير علم ، قال تعالى ﴿وإن كثيراً ليضلون بأهوائهم بغير علم﴾ (الانعدام : 119) وقال تعالى ﴿ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله﴾ (القصص : 50).وكل من يخالف الرسل هو مقلد متبع لمن لا يجوز له اتباعه ، وكذلك من اتبع الرسل بغير بصيرة ولا تبين ، وهو الذي يسلم بظاهره من غير أن يدخل الإيمان إلى قلبه كالذي يقال له في القبر : من ربك ؟ وما دينك ؟ وما نبيك ؟ . فيقول : هاه ، هاه ، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته – هو مقلد فيضرب بمرزبة من حديد ، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلاّ الإنسان ولو سمعها الإنسان لصعق ، أي ، لمات.وقد قال تعالى : ﴿قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ﴾ (الحجرات : 14) فمن لم يدخل الإيمان في قلبه وكان مسلماً في الظاهر ، فهو من المقلدين المذمومين . فإذا تبين أن المقلد مذموم – وهو من اتبع هوى من لا يجوز اتباعه – كالذي يترك طاعات رسل الله ، ويتبع ساداته وكبراءه ، أو يتبع الرسول ظاهراً من غير إيمان في قلبه ، تبين أن اليهود والنصارى كلهم مقلدون تقليداً مذموماً ، وكذلك المنافقون من هذه الأمة . وأما أهل البدع ، ففيهم بر وفجور وبيان ذلك من وجوه : أحدها : أن اليهود والنصارى الذين يزعمون أنهم يتبعون موسى وعيسى صلى الله عليهما وسلم ، إنما يتبعونهم لأجل أنهم رسل الله ، وما من طريق تثبت بها نبوة موسى وعيسى عليهما السلام إلاّ ومحمد أولى وأحرى . مثال ذلك : إذا قال اليهود والنصارى : قد ثبت بالنقل المتواتر أن موسى وعيسى – مع دعواه النبوة - ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه ، وأنه جاء من الدين والشريعة ما يعلم أنه لم يجيء به مفتر كذاب – ظهرت على يديه الآيات الدالة على صدقه – وإنما يجيء به مع دعوى النبوة نبي صادق . قيل له : كل من هاتين الطريقتين دليل يثبت نبوة محمد صلى الله عليه وسلمبطرق الأولي . فإنه من المعلوم أن الذين نقلوا ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلممن الدين والشريعة ونقلوا ما جاء به من الآيات المعجزات ، أعظم من الذين نقلوا مثل ذلك عن موسى وعيسى وما جاء به من هذين النوعين أعظم مما جاء به موسى وعيسى ، بل من نظر بعقله في هذا الوقت إلى ما عند المسلمين من العلم النافع ، والعمل الصالح وما عند اليهود والنصارى ، علم أن بينهما من الفرق أعظم مما بين العرم والعِرق . فإن الذي عند المسلمين ، من توحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته ، وملائكته وأنبيائه ورسله ومعرفة اليوم الآخر ، وصفة الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والوعد والوعيد ، أعظم وأجل بكثير مما عند اليهود والنصارى ، وهذا بين لكل من يبحث عن ذلك . وما عند المسلمين من العبادات الظاهرة والباطنة مثل الصلوات الخمس ، غيرها من الصلوات ، والأذكار والدعوات ، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب ، وما عندهم من الشريعة في المعاملات ، واالمناكحات والأحكام والحدود والعقوبات ، أعظم وأجل مما عند أهل الكتاب . فالمسلمون فوقهم في كل علم نافع ، وعمل صالح ، وهذا يظهر لكل أحد بأدنى نظر ، لا يحتاج إلى كثير سعي . والمسلمون متفقون على أن كل هدى وخير يحصل لهم ، فإنما حصل بنبيهم صلى الله عليه وسلم، فكيف يمكن مع هذا أن يكون موسى وعيسى نبيين ، ومحمد صلى الله عليه وسلمليس بنبي ، وأن اليهود والنصارى على الحق ؟! . فما هم عليه من الهدى ودين الحق ، أعظم مما عند اليهود والنصارى ، وذلك إنما تلقوه من نبيهم . وهذا القدر يعترف به كل عاقل – من اليهود والنصارى – يعترفون بأن دين المسلمين حق ، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن من أطاعه منهم دخل الجنة ، بل يعترفون بأن دين الإسلام خير من دينهم ، كما أطبقت على ذلك الفلاسفة ، كما قال ابن سينا وغيره : أجمع فلاسفة العالم على أنه لا يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس ، لكن من لم بتبعه يعلل نفسه بأنه لا يجب عليه اتباعه ، لأنه رسول إلى العرب الأميين دون أهل الكتاب ،لأنه إن كان دينه حقاً فديننا أيضاً حق ، والطريق إلى الله تعالى متنوعة ، ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة ، فإنه وإن كان أحد المذاهب يرجع على الآخر،فأهل المذاهب الأخرى ليسوا كفاراً ولا من أهل الكتاب . هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون من أهل الكتاب ، والمتفلسفة ونحوهم ، وبطلانها ظاهرة ، فإنه كما علم علماً ضرورياً متواتراً أنه دعا المشركين إلى الإيمان فقد علم بمثل ذلك أنه دعا أه الكتاب إلى الإيمان به ، وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين ، فجاهد بني قينقاع ، وبني النضير ، وقريضة ، وأهل خيبر ، وهؤلاء كلهم يهود ، وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم ، وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه ، حتى قتل في محاربتهم زيد بن محمد مولاه الذي كان تبناه ، وجعفر وغيرهما من أهله وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران . وكذالك خلفاؤه الراشدون من بعده جاهدوا أهل الكتاب وقاتلوا من قاتلهم،وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون. وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به ، مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى أتباعه ، يكفر من لم يتبعه منهم ، ويذمه ويلعنه ، والوعيد له كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه ، والوعيد كما قال تعالى ﴿يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم﴾ الآية (النساء 47) وفي القرآن من قوله : يا أهل الكتاب ، يابني إسرائيل ، ما لا يحصى إلا بكلفة .وقال تعالى ﴿لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين﴾ الآية إلى قوله ﴿خير البرية﴾ (البينة : 1-7) ومثل هذا في القرآن كثير جداً وقد قال تعالى ﴿قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض﴾ (الأعراف : :158) وقال تعلى ﴿وما أرسلناك إلاّ كافة للناس﴾ (سبأ : 28) .واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم(فٌضِّلت على الأنبياء بخمس ) ذكر فيها أنه قال (كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) بل تواتر عنه أنه بعث إلى الجن والأنس فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر – الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته – أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به ، وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا ، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم ، وغنم أموالهم ، فحاصر بني قينقاع ، ثم أجلاهم أذرعات ، وحاصر بني النظير ، ثم أجلاهم إلى خيبر ، وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر . ثم حاصر بني قريضة لما نقضوا العهد ، وقتل رجالهم ، وسبى حريمهم ، وأخذ أموالهم وقد ذكره الله – تعالى – في سورة الأحزاب وقاتل أهل خيبر حتى فتحها ، وقتل من قتل من رجالهم وسبى من سبى من حريمهم وقسم أرضهم بين المؤمنين وقد ذكرها الله – تعالى – في سورة الفتح وضرب الجزية على النصارى ، وفيهم أنزل الله سورة آل عمران ، وفي عامة السور المدنية ، مثل البقرة وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، وغير ذلك من السور المدنية ، من دعوة أهل الكتاب ، وخطابهم ، ما لا تتسع هذه الفتوى لعُشرِه . ثم خلفاؤه بعد أبو بكر وعمر ، ومن معهما من المهاجرين والأنصار ، الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له ، وأطوعهم لأمره ، وأحفظهم لعهده ، وقد غزوا الروم كما غزوا فارس ، وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس ، فقاتلوا من قاتلهم ، وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون .ومن الأحاديث الصحيحة عنه قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلاّ دخل النار ) .قال سعيد بن جبير تصديق ذلك في كتاب الله تعالى : ﴿ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده﴾ (هود : 17) ومعنى الحديث متواتر عنه ، معلوم بالاضطرار فإذا كان الأمر كذلك لزم بأنه رسول الله لا يكذب ، ولا يقاتل الناس على طاعته بغير أمر الله ، ولا يستحل دماءهم ، وأموالهم ، وديارهم بغير إذن الله .فمن قال : إن الله أمره بذلك وفعله ، ولم يكن الله أمره بذلك ، كان كاذباً مفترياً ظالماً ﴿ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء﴾ (الأنعام : 93) وكان مع كونه ظالماً مفترياً ، من أعظم المريدين علواً في الأرض وفساداً ، وكان أشر من الملوك الجبابرة الظالمين ، فإن الملوك الجبابرة الذين يقاتلون الناس على طاعتهم ، لايقولون إنا رسل الله اليكم ، ومن أطاعنا دخل الجنة ، ومن عصانا دخل النار ، بل فرعون وأمثاله لا يدخلون في مثل هذا ، ولا يدخل في هذا إلاّ نبي صادق ، أو متنبئ كذاب ، كمسيلمة والأسود وغيرهما .فإذا علم أنه نبي كيف ما كان ، لزم أن يكون ما أخبر به عن الله حقاً ، وإذا كان رسول الله وجبت طاعته في كل ما يأمر به ، كما قال تعالى : ﴿وما أرسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله ﴾ ( النساء : 64) وإذا أخبر أنه رسول الله الى أهل الكتاب ، وانهم تجب عليهم طاعته ، كان ذلك حقاً ، ومن أقر بأنه رسول الله وأنكر أن يكون مرسلاً الى أهل الكتاب بمنزلة إسرائيل من مصر وأن الله لم يأمره بذلك وأن الله لم يأمره بالسبت ولا أنزل عليه التوراة ولا كلمه على الطور ومن يقول إن عيسى كان رسول الله لم يبعث الى بني اسرائيل ولا كان يجب على بني اسرائيل طاعته وأنه ظلم اليهود وأمثال ذلك المقالات التي هي أكفر المقالات .ولهذا قال تعالى ﴿إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض﴾ الى قوله ﴿والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم﴾ الآية (النساء : 150-152) وقال لبني اسرائيل ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾ الى قوله : ﴿ وما الله بغافل عما تعملون ﴾ (البقرة :85) .فهذه الطريقة الواضحة البينة القاطقة يبين بها لكل مسلم ويهودي ونصراني أن دين المسلمين هو الحق دون اليهود والنصارى فإنها مبنية على مقدمتين . إحداهما : أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلمورسالته وهدي أمته أبين وأوضح تعلم بكل طريق تعلم بها نبوة موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام وزيادة فلا يمكن القول بأنهما نبيان دونه لأجل ذلك وإن شاء الرجل استدل على ذلك بنفس الدعوة وما جاء به وإن شاء بالكتاب الذي بعث به وإن شاء بما عليه أمته وإن شاء بما بعث به من المعجزات فكل طريق من هذه الطرق اذا تبين بها نبوة موسى وعيسى كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلمبها أبين وأكمل . والمقدمة الثانية : أنه أخبر أن رسالته عامة الى أهل الأرض من المشركين وأهل الكتاب وأنه لم يكن مرسلاً الى بعض الناس دون بعض وهذا أمر معلوم بالضرورة والنقل المتواتر والدلائل القطعية .وأما اليهود والنصارى فأصل دينهم حق كما قال تعالى ﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين منهم من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ (البقرة : 62) لكن كل من الدينين مدل منسوخ فإن اليهود بدلوا وحرفوا ثم نسخ بقية شريعتهم بالمسيح صلى الله عليه وسلم.ونفس الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى مثل نبوة الانبياء وهي اكثر من عشرين نبوة وغيرها تبين انهم بدلوا وأن شريعتهم تنسخ وتبين صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلمفإن فيها من الاعلام والدلائل على نبوة خاتم المرسلين ما قد صنف فيه العلماء مصنفات وفيها أيضاً من التناقض وااختلاف مايبين أيضاً وقوع التبديل وفيها من الأخبار من نحو بعدها ما بين أنها منسوخة فعندهم مايدل على هذه المطالب وقد ناظرنا غير واحد من أهل الكتاب وبيناً لهم ذلك وأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف وصاروا يناظرون أهل دينهم ويبينون ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلمولكن هذه الفتيا لا تحتمل غير ذلك .وهذا من الحكمة في ابقاء أهل الكتاب بالجزية إذ عندهم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلموعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الايمان بالله واليوم الآخر ما يمثل ما أخبرت به الانبياء قبله قال تعالى ﴿قل أرئيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله﴾(الأحقاف : 10) وقوله ﴿قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب﴾( الرعد : 43)وقال تعال ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا اليك فاسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك﴾( يونس : 94).والنبي صلى الله عليه وسلملم يشك ولم يسأل ولكن هذا حكم معلق بشرط والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه وفي ذلك سعة لمن شك أو أراد أن يحتج أو يزداد يقيناً . (فصل) فهذه الطريقة بينة في مناظرة أهل الكتاب وأما إن كان المخاطب لا يقر بنبوة نبي من الأنبياء لا موسى ولا عيسى ولا غيرهما فللمخاطبة طرق . منها : أن نسلك في الكلام بين أهل الملل وغيرهم من المشركين والصابئين والمتفلسفة والبراهمة وغيرهم نظير الكلام بين السلمين وأهل الكتاب . فنقول : من المعلوم لكل عاقل له أدنى نظر وتأمل أن أهل الملل أكمل في العلوم النافعة والاعمال الصالحة ممن ليس من أهل الملل فما من خير يوجد عند غير المسلمين من أهل الملل إلا عند المسلمين ما هو أكمل منه وعند أهل الملل ما لايوجد عند غيرهم وذلك أن العلوم والأعمال نوعان . نوع يحصل بالعقل : كعلم الحساب والطب وكالصناعة من الحياكة والخياطة والتجارة ونو ذلك فهذه الأمور عند أهل الملل كما هي عند غيرهم بل هم فيها أكمل فإن علوم المتفلسفة من علوم المنطق والطبيعة والهيئة وغير ذلك من متفلسفة الهند واليونان وعلوم فارس والروم لما صارت الى المسلمين هذبوها ونقحوها لكمال عقولهم وحسن ألسنتهم وكان كلامهم فيها أتم وأجمع وأبين وهذا يعرفة كل عاقل وفاضل وأما ما لا يعلم بمجرد العقل كالعلوم الإلهية وعلوم الديانات فهذه مختصة بأهل الملل وهذه منها ما يمكن أن يقام عليه أدلة عقلية فالآيات الكتابية مستنبطة من الرسالة فالرسل هدوا الخلق وأرشدوهم الى دلالة العقول عليها فهي عقلية شرعية فليس لمخالف الرسول أن يقول : هذه لم تعلم إلاّ بخبرهم فإثبات خبرهم بها دور بل يقال بعدالتهم وإرشادهم وتبينهم للمعقول صارت معلومة بالعقل والأمثال المضروبة والأقيسة العقلية . وبهذه العلوم يعلم صحة ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلموبطلان قول من خالفهم . النوع الثاني : ما لا يعلم إلا بخبر الرسل فهذا يعلم بوجوه : منها : اتفاق الرسل علي الاخبار به من غير تواطؤ ولا اتفاق بينهم فإن المخبر إما أن يكون متعمداً للكذب وإما أن يكون مخطئاً فإذا قدر عدم الخطأ والتعمد كان خبره صدقاً لا محالة . ومعلوم أنه إذا أخبر واحد عن علوم طويلة فيها تفاصيل كثيرة لا يمكن في العادة خطؤهم وأخبر غيره قبل ذلك مع الجزم بأنهما لم يتواطآ ولا يمكن أن يقال أنه الكذب في مثل ذلك أفاد خبرهما العلم وإن لم يعلم حالهما فلو ناجى رجلا بحضرة رجال وحدث بحديث طويل فيه أسرار تتعلق به في رجل بتلك الامور الاسرار ثم جاء آخر قد علمنا أنه لم يتفق مع المخبر الاول فاخبر عن تل المناجاة والاسرار مثلما اخبر به الاول جزمنا قطعاً بصدقهما .ومعلوم أن موسى أخبر بما أخبر به قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلموقبل أن يبعث المسيح .ومعلوم أيضاً لكل من كان عالماً بحال محمد صلى الله عليه وسلمانه نشأ بين قوم أميين لا يقرؤون كتاباً ولا يعلمون علوم الانبياء وأنه لم يكن عندهم من يعلم ما في التوراة والانجيل ونبوة الانبياء .وقد أخبر محمد صلى الله عليه وسلممن توحيد الله وصفاته واسمائة وملائكته وعرشه وكرسية وانبيائة ورسله واخبرهم واخبار مكذبيهم بنظير ما يوجد في كتب الانبياء من التوراة وغيرها .فمن تدبر التوراة والقرآن علم أنهما جميعاً يخرجان من مشكاة واحدة كما ذكر ذلك النجاشي وكما قال ورقة بن نوفل : هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى ولهذا قرن الله – تعالى – بين التوراة والقرآن في مثل هذا في قوله ﴿لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أو لم يكفروا بما أوتي موسى من قبل﴾ الى قوله ﴿إن كنتم صادقين﴾ (القصص : 48-49) وقالت الجن ﴿إنا سمعنا كتاباً أنزل من بد موسى مصدقاً لما بين يدية﴾ الاية (الاحقاف : 30) وقال ﴿أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة﴾ (هود : 17) وقال ﴿وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وهدى للناس﴾ الى قوله : ﴿وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ﴾ (الانعام : 91-92) . ومن الطرق : الطرق الواضحة القاطعة المعلومة الى قيام الساعة بالتواتر من أحوال أتباع الانبياء وأحوال من كذبهم وكفر بهم حال نوح وقومه وهود وقومه وصالح وقومه وحال ابراهيم وقومه وحال موسى وفرعون وحال محمد صلى الله عليه وسلموقومه .وهذا الطريق قد بينها الله في غير موضع من كتابه كقوله ﴿كذبت (قبلهم)﴾ قوم نوح والاحزاب من بعدهم﴾ الى قوله ﴿فكيف كان عقاب﴾ (غافر : 5) وقال ﴿وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم ابراهيم وقوم لوط . وأصحاب مدين وكُذب موسى﴾ الى قوله ﴿فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة﴾ الى قوله ﴿أفلم يسيروا في الارض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها﴾ (الحج : 42-46) ؟ وقوله : ﴿وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون﴾ (الصافات : 137-138) ؟ وقال : ﴿إن في ذلك لآيات للمتوسمين﴾ (الحجر : 75) .فبين أنه تارك آثار القوم المعذبين للمشاهدة ويستدل بذلك على عقوبة الله لهم ، وقال تعالى : ﴿وكم أهلكنا من القرون﴾ الآيتان (الاسراء : 17-18) فذكر طريقين يعلم بهما ذلك . أحدهما : ما يعاين ويعقل بالقلوب . والثاني : مايسمع ، فإنه قد تواتر عند كل أحد حال الانبياء ومصدقهم ومكذبهم وعاينوا من آثارهم ما دل على أنه سبحانه عاقب مكذبهم وانتقم منهم وأنهم كانوا على الحق الذي يحبه ويرضاه وأن من كذبهم كان على الباطل الذي يغضب الله على أهله ، وأن طاعة الرسل طاعة لله ومعصيتهم معصية لله . ومن الطرق أيضاً : أن يعلم ما تواتر من معجزاتهم الباهرة وآياتهم القاهرة وأنه يمتنع أن تكون المعجزة على يد دعي النبوة وهو كذاب من غير تناقض ولا تعارض كما هو مبسوط في غير هذا الموضع . ومن الطرق : أن الرسل جاؤوا من العلوم النافعة والاعمال الصالحة بما هو معلوم عند كل عاقل لبيب ولا ينكره إلا جاهل غاو . وهذه الفتيا لا تسع البسط الكثير فإذا تبين صدقهم وجب التصديق في كل ما أخبروا به ووجب الحكم بكفر من آمن ببعض وكفر ببعض والله سبحانه وتعالى أعلم والحمد لله رب العالمين ، صلى الله عليه وسلم. سُئِل عن عرضِ الأديان عند الموت : هل لذلك أصل في الكتاب والسنة أم لا ؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنكم لتفتنون في قبوركم) مالمراد بالفتنة ؟ وإذا ارتد العبد والعياذ بالله هل يجازى بأعماله الصالحة قبل الردة أم لا ؟ أفتونا مأجورين . فأجاب : الحمد لله رب العالمن ، أما عرض ااديان على العبد وقت الموت فليس هو أمرا عاما لكل أحد ولا هو أيضاً منتفياً عن كل أحد بل من الناس من تعرض عليه الاديان قبل موته ومنهم من لا تعرض عليه وقد وقع ذلك لأقوام وهذا كله من فتنة المحيا والممات التي أمرنا أن نستعيذ منها في صلاتنا . منها : ما في الحديث الصحيح : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلمأن نستعيذ في صلاتنا من أربع : من عذاب جهنم ، ومن عذاب القبر ، ومن فتنة المحيا والممات ، ومن فتنة المسيح الدجال.ولكن وقت الموت أحرص ما يكون الشيطان على إغواء بني آدم ، لأنه وقت الحاجة .وقد قال النبي صلى الله عليه وسلمفي الحديث الصحيح : (الأعمال بخواتيمها) وقال صلى الله عليه وسلم (إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن العبد ليعمل بعمل أهل النار حتى مايكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ) .ولهذا روى : (أن الشيطان أشد ما يكون على ابن آدم حين الموت ، يقول لأعوانه : دونكم هذا ، فإنه إن فاتكم لن تظفروا به أبداً ) .وحكاية عبدالله بن أحمد بن حنبل مع أبيه وهو يقول : لا ، بعد ، مشهورة .ولهذا يقال : إن من لم يحج يخاف عليه من ذلك لما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلمقال (من ملك زاداً أو راحلة تبلغه اى بيت الله الحرام ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً ) .قال الله تعالى : ﴿ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين﴾ ( آل عمران :97) قال عكرمة لما نزلت هذه الاية : ﴿ومن يبتغ غير الاسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين﴾ (آل عمران : 85) قالت اليهود والنصارى : نحن المسلمون فقال الله لهم ﴿ولله على الناس حج البيت﴾ فقالوا : لا نحجه . فقال تعالى : ﴿ومن كفر فإن الله غني عن العالمين﴾ .وأما الفتنة في القبور فهي الامتحان والاختبار للميت حين يسأله الملكان فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم (محمد) ؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فيقول المؤمن : الله ربي والاسلام ديني ومحمد نبيي وقول : هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى فآمنا به واتبعناه فينتهرانه انتهارة شديدة وهي آخر فتنة التي يفتن بها المؤمن فيقولان له كما قلا أولاً .وقد تواترت الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلمفي هذه الفتنة من حديث البراء بن عازب وأنس بن مالك وأبي هريرة وعيرهم رضي الله عنهم وهي عامة للمكلفين ، إلاّ لا يفتنون لأن المحنة إنما تكون للمكلفين ، وهذا قول القاضي وابن عقيل .وعلة هذا فلا يلقنون بعد الموت وقيل : يلقنون ويفتنون أيضا وهذا قول أبي حكيم وأبي الحسن بن عبدوس ونقله عن أصحابه وهو مطابق لقول من يقول إنهم يكلفون يون القيامة كما هو قول اكثر أهل العلم وأهل السنة من أهل الحديث والكلام وهو الذي ذكره ألو الحسن الاشعري – رضي الله عنه – عن أهل السنة واختاره وهو مقتضى نصوص الامام أحمد.وأما الردة عن الاسلام بأن يصير الرجل كافراً مشركاً أو كتابياً فإنه إذا مات على ذلك حبط عمله باتفاق العلماء كما نطق بذلك القرآن الكريم في غير موضع كقوله : ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة﴾ (البقرة : 217) وقوله : ﴿ومن يكفر بالايمان فقد حبط علمه﴾ (المائدة : 5) وقوله : ﴿ولوا أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون﴾ (الانعام : 88) وقوله : ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ (الزمر : 65).ولكن تنازعوا فيما إذا ارتد ثم عاد الى الاسلام هل تحبطج الاعما التي عملها قبل الردة أم لا تحبط إلا إذا مات مرتداً ؟ على قولين مشهورين هما قولان في مذهب الامام أحمد والحبوط : مذهب أبي حنيفة ومالك والوقوف : مذهب الشافعي .وتنازع الناس أيضاً – في المرتد هل يقال : كان له إيمان صحيح يحيط بالردة ؟ أم يقال بل بالردة تبينا أن إيمانه كان فاسداً ؟ وأن الايمان الصحيح لا يزول البتة ؟ على قولين لطوائف الناس وعلى ذلك يبني قول قول المستثنى : أنا مؤمن – إن شاء الله هل يعود الاستثناء الى كمال الايمان ؟ أو يعود الى الموافاة في المآل ، والله أعلم . وسُئِل : هل جميع الخلق – حتى الملائكة – يموتون ؟ فأجاب : الذي عليه أكثر الناس : أن جميع الخلق يموتون حتى الملائكة ، وحتى عزرائيل ملك الموت ، وروى في ذلك حديث مرفوع الى النبي صلى الله عليه وسلموالمسلمون واليهود والنصارى متفقون على إمكان ذلك وقدرة الله عليه وإنما يخالف في ذلك طوائف من المتفلسفة أتباع أرسطو وأمثالهم ومن دخل معهم من المنتسبين الى الاسلام أو اليهود والنصارى كأصحاب (رسائل إخوان الصفا) وأمثالهم ممن زعم أن الملائكة هي العقول والنفوس وأنه لا يمكن موتها بحال بل هي عندهم آلهة وأرباب لهذا العالم .والقرآن وسائر الكتب تنطق بأن الملائكة عبيد مدبرون كما قال سبحانه ﴿لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعاً﴾ (النساء : 172) وقال تعالى ﴿وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون . لا يسبقونه بالقول وهو بأمره يعملون . يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى﴾ (الانبياء : 26-28) ، وقال : ﴿وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلاّ من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى﴾ (النجم :26) .والله – سبحانه – قادر على أن يميتهم ثم يحييهم كما هو قادر على إماتة البشر والجن ثم إحيائهم وقد قال سبحانه : ﴿وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى﴾ (الروم : 27) .وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلممن غير وجه وعن غير واحد من الصحابة أنه قال : (إن الله إذا تكلم بالوحي أخذ الملائكة مثل الغشى) وفي رواية : (إذا سمعت الملائكة كلامه صعقوا) وفي رواية : (سمعت الملائكة كجر السلسة على الصفوان فيصعقون فإذا فزع عن قلوبهم) أي : أزيل الفزع عن قلوبهم ( قالوا : ما قال ربكم ؟ قالوا : الحق فينادون : الحق ، الحق) فقد أخبر هذه الأحاديث الصحيحة أنهم يصعقون صعق الغشي فإذ جاز عليهم صعق الغشي جاز صعق الموت وهؤلاء المتفلسفة لا يجوزون لا هذا ولا هذا وصعق الغشي وهو مثل صعق موسى – عليه السلام – قال تعالى ﴿فملا تجلى ربه للجبل جعله دكاء وخر موسى صعقاً﴾ (الاعراف : 143). والقرآن قد أخبر بثلاث نفخات :نفخة الفزع ذكرها في سورة النمل في قوله ﴿ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله وكل أتوه داخرين﴾ (النمل : 87) .ونفخة الصعق والقيام ذكرهما في قوله : ﴿ويوم ينفه في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون﴾ (الزمر : 68) وأما الاستثناء فهو متناول لمن في الجنة من الحو العين فإن الجنة ليس فيها موت ومتناول لغيرهم ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله فإن الله أطلق في كتابه.وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلمقال : (إن الناس يُصعقون يوم القيامة فأكون أول من يُفيق فأجد موسى آخذاً بساق العرش فلا أدري هل أفاق قبلي أم كان ممن استثناه الله ؟) وهذه الصعقة قد قيل : إنها رابعة وقيل إنها من المذكورات في القرآن. وبكل حال : النبي صلى الله عليه وسلمقد توقف في موسى وهل هو داخل في الاستثناء فيمن استثناه الله أم لا . فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلملم يخبر بكل من استثنى الله لم يمكنا نحن أن نجزم بذلك وصار هذا مثل العلم بوقت الساعة وأعيان الانبياء وأمثال ذلك مما لم يخبر به وهذا العلم لا ينال إلا بالخبر والله أعلم ، صلى الله عليه وسلم. قال شيخ الاسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية – رحمه الله :- فصل مذهب سائر المسلمين بل وسائر أهل الملل إثبات القيامة الكبرى وقيام الناس من قبورهم والثواب والعقاب هناك وإثبات الثواب والعقاب في البرزخ – ما بين الموت الى يوم القيامة هذا قول السلف قاطبة وأهل السنة والجماعة ، وإنما أنكر ذلك في البرزخ قليل من أهل البدع . لكن من أهل الكلام من يقول : هذا إنما يكون على البدن فقط كأنه ليس عنده نفس تفارق البدن كقول من يقول ذلك من المعتزة والأشعرية . ومنهم من يقول :بل هو على النفس فقط بناء على أنه ليس في البرزخ عذاب على البدن ولا نعيم كما يقول ذلك ابن ميسرة وابن حزم . ومن من يقول : بل البدن ينعم ويعذب بلا حياة فيه كما قاله طائفة من أهل الحديث وابن الزاغوني يميل الى هذا في مصنفه في حياة الانبياء في قبورهم وقد بسط الكرم على هذا في مواضع .والمقصود هنا أن كثيراً من أهل الكلام ينكر أن يكون للنفس وجود بعد الموت ولا ثواب ولا عقاب ويزعمون أنه لم يدل على ذلك القرآن والحديث كما أن الذين أنكروا عذاب القبر والبرزخ مطلقاً زعموا أنه لم يدل على ذلك القرآن وهو غلط ، بل القرآن قد بين في غير موضع بقاء النفس بعد فراق البدن وبين النعيم والعذاب في البرزخ .وهو – سبحانه – وتعالى في السورة الواحدة يذكر (القيامة الكبرى) و(الصغرى) كما في سورة الواقعة ، فإنه ذكر في أولها القيامة الكبرى وأن الناس يكونون أزواجاً ثلاثة كما قال تعالى ﴿إذا وقعت الواقعة . ليس لوقعتها كاذبة . خافضة رافعة . إذا رجت الأرض رجا . وبست الجبال بسا . فكانت هباءً منبثاً . وكنتم أزواجاً ثلاثة﴾ (الواقعة : 1-7) .ثم إنه في آخرها ذكر القيامة الصغرى بالموت وأنهم ثلاثة أصناف بعد الموت ، فقال : ﴿فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون . ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون . فلولا إن كنتم غير مدينين . ترجعونها إن كنتم صادقين . فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين . فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم وتصلية جحيم﴾ (الواقعة : 83-94) فهذا فيه أن النفس تبلغ الحلقوم وأنهم لا يمكنهم رجعها وبين حال المقربين وأصحاب اليمين والمكذبين حينئذ .وفي سورة القيامة ذكر أيضاً القيامتين فقال : ﴿لا أقسم بيوم القيامة﴾ (القيامة : 1) ثم قال : ﴿ولا أقسم بالنفس اللوامة﴾ (القيامة : 2) وهي نفس الانسان .وقد قيل : إن النفس تكون لوامة وغير لوامة وليس كذلك بل نفس كل انسان لوامة فإنه ليس بشر إلا يلوم نفسه ويندم إما في الدنيا وإما في الآخرة فهذا إثبات النفس ، ثم ذكر معاد البدن فقال ﴿أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه . بلا قادرين على أن نسوي بنانه . بل يريد الانسان ليفجر أمامه . يسئل أيان يوم القيامة﴾ (القيامة : 3-6) ووصف حال القيامة الى قوله ﴿تظن أن يفعل بها فاقرة﴾ (القيامة : 25) .ثم ذكر الموت فقال : ﴿كلا إذا بلغت التراقي﴾ (القيامة :26) وهذا إثبات للنفس وأنها تبلغ التراقي كما قال هناك ﴿بلغت الحلقوم﴾ (الواقعة : 83) والتراقي متصلة بالحلقوم .ثم قال : ﴿وقيل من راق﴾ (القيامة : 27) يرقيها وقيل : من صاعد يصعد بها الى الله والاول أظهر ، لاأن هذا قبل الموت فإنه قال ﴿وظن أنه الفراق﴾ (القيامة : 28) فدل على أنهم يرجونه ويطلبون له راقياً يرقيه ، وأيضاً فصعودها لا يفتقر الى طلب من يرقي بها فإن لله ملائكة يفعلون مايؤمرون والرقية أعظم الأدوية فإنها دواء روحاني ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلمفي صفة المتوكلين : (لا يسترقون) والمراد أنه يخاف الموت ويرجو الحياة بالراقي ولهذا قال : ﴿وظن أنه الفراق﴾ .ثم قال : ﴿والتفت الساق بالساق . الى ربك يومئذ المساق﴾ (القيامة : 29-30﴾ فدل على نفس موجودة قائمة بنفسها تساق الى ربها والعرض القائم بغيره لا يساق ولا بدن الميت فهذا نص في اثبات نفس تفاق البدن تساق الى ربها كما نطقت بذلك الاحاديث المستفيضة في قبض روح المؤمن وروح الكافر .ثم ذكر بعد هذا صفة الكافر بقوله مع هذا الوعيد الذي قدمه : ﴿فلا صدّق ولا صلى﴾ (القيامة : 31) وليس المراد أن كل نفس من هذه النفوس كذلك .وكذلك سورة (ق) هي في ذكر وعي القيامة ومع هذا قال فيها ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ماكنت منه تحيد﴾ (ق : 19) ثم قال بعد ذلك ﴿ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد﴾ (ق : 20) فذكر القيامتين الصغرى والكبرى وقوله ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق﴾ أي : جاءت بما بعد الموت من ثواب وعقاب وهو الحق الذي أخبرت به الرسل ليس مراده أنها جاءت بالحق الذي هو الموت فإن هذا مشهور لم ينازع فيه ولم يقل أحد : إن الموت باطل حتى يقال : جاءت بالحق . وقوله : ﴿ذلك ما كنت منه تحيد﴾ فالانسان وإن أكره الموت فهو يعلم أنه تلاقيه ملائكته وهذا كقوله ﴿واعبد ربك حتى يأتيك اليقين﴾ (الحجر : 99) واليقين ما بعد الموت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم(أما عثمان ن مظعون فقد جاءه اليقين من ربه) وإلا فنفس الموت – مجر عما بعده – أمر مشهود لم ينازع فيه أحد حتى يسمى يقيناً .وذكر عذاب القيامة والبرزخ معاً في غير موضع وذكره في قصة آل فرعون فقال ﴿وحاق بآل فرعون سوء العذاب ﴾. (غافر : 45-46) وقال في قصة نوح ﴿مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً﴾ (نوح : 25) مع إخبار نوح لهم بالقيامة في قوله ﴿والله أنبتكم من الارض نباتاً . ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً﴾ (نوح : 17-18) .وقد ذكرنا في غير موضع أن الرسل قبل محمد أنذروا بالقيامة الكبرى تكذيباً لمن نفى ذلك من المتفلسفة وقال عن المنافقين ﴿سنعذبهم مرتين ثم يردون الى عذاب عظيم﴾ (التوبة : 101) قال غير واحد من العلماء : المرة الاولى في الدنيا والثانية في البرزخ ﴿ثم يردون الى عذاب عظيم﴾ في الآخرة .وقال تعالى في الانعام ﴿ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون . ولقج جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم﴾ (الانعام : 93-94) وهذه صفة حال الموت وقوله ﴿أخرجوا أنفسكم﴾ دل على وجود النفس التي تخرج من البدن وقوله ﴿اليوم تجزون عذاب الهون﴾ دل على وقوع الجزاء عقب الموت .وقال تعالى في الانفال ﴿ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق . ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلاّم للعبيد﴾ (الانفال : 50-51) وهذا ذوق له بعد الموت .وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلملما أتى المشركين يوم بدر في القليب ناداهم (يافلان ، يفلان ، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ؟ فقد وجدت ما وعدني ربي حقاً) وهذا دليل على وجودهم وسماعهم وأنهم وجدوا ما وعدوه بعد الموت من العذاب وأما نفس قتلهم فقد علمه الاحياء منهم .وقال تعالى في سورة النساء ﴿إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وسائت مصيراً﴾ (النساء : 97) وهذا خطاب لهم إذا توفتهم الملائكة وهم لا يعاينون الملائكة إلاّ وقد يئسوا من الدنيا ومعلوم أن البدن لم يتكلم لسانه بل هو شاهد يعلم أن الذي يخاطب الملائكة هو النفس والمخاطب لا يكون عرضاً .وقال تعالى في النحل : ﴿الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون . فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين﴾ (النحل :28-29) وهذا القاء للسلم اى حين الموت وقول للملائكة ﴿ماكنا نعمل من سوء﴾ وهذا إنما يكون من النفس .وقد قال في النحل : ﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون﴾ (لنحل : 32) وقال في السجدة ﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي توعدون . نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون﴾ (فصلت : 30-31) وقد ذكروا أن هذا التنزل عند الموت .وقال تعالى في سورة آل عمران ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون . فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ (آل عمران : 169-171) وقال قبل ذلك في سورة البقرة ﴿ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون﴾ (البقرة : 154) .وأيضاً فقال تعالى ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الاخرى إلى أجل مسمى﴾ (الزمر : 42) وهذا بيان لكون النفس تقبض وقت الموت ثم منها ما يمسك فلا يرسل الى بدنهخ وهو الذي قضى عليه الموت ومنها مايرسل الى أجل مسمى وهذا إنما يكون في شيء يقوم بنفسه لا في عرض قائم بغيره فهو بيان لوجود النفس المفارقة بالموت .والأحاديث الصحيحة توافق هذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم(باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فارحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين) وقال – لما ناموا عن صلاة الصبح (إن الله قبض أرواحنا حيث شاء) .وقال تعالى ﴿وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى ثم اليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعملون . وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم ليفرطون . ثم ردوا الى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين﴾ (الانعام : 60-62) فهذا توف لها بالنوم الى أجل الموت لذي ترجع فيه الى الله واخبار أن الملائكة تتوفاها بالموت ثم يردون الى الله والبدن وما يقوم به من الاعراض لا يرد إنما يرد الروح .وهو مثل قوله في يونس ﴿وردوا الى الله﴾ (يونس : 3) وقال تعالى ﴿إن الى ربك الرجعى﴾ (العلق : وقال تعالى ﴿يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي الى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي
سئل شيخ الإسلام أحمد بن تيمية – قدس الله روحه – عن رجل :