]الرد على الخوارج بأن الله سمى
المقتتلين مؤمنين
قال
المصنف رحمه الله تعالى: [ وأيضاً: فإن الله تعالى قال: وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ .. [الحجرات:9-10]، الآية. فقد وصفهم بالإيمان والأخوة وأمرنا بالإصلاح بينهم ]. ما
زلنا في ذكر المرجحات والأدلة التي تدل على أن من وصفوا بالإسلام دون الإيمان في النصوص
هم ضعفاء الإيمان، وأنهم لم يخرجوا من دائرة الإسلام، خلافاً لمن قال إنهم
منافقون. وقد سبق ذكر مرجحات منها: أن الحرف (لما) في قوله تعالى: وَلَكِنْ
قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات:14]،
ينفي به ما قرب وجوده وانتظر وجوده. ومنها أنه قال: وَإِنْ
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحجرات:14]. فأثبت
لهم طاعة لله ورسوله فدل على أنهم مؤمنون وليسوا منافقين، ومنها أن الله وجه
الخطاب إليهم، ولو كانوا منافقين لكان هذا خلاف مدلول الخطاب. ومن المرجحات
المذكورة هنا قول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ
إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9].
حكم قتل الشارب في الرابعة
وقد أعيا
الأئمة الكبار الجمع بين الحديثين، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز، فيجوز أن
يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة. أي: أن الأمر بقتله منسوخ لكن إذا رأى
الإمام المصلحة في قتله من باب التعزير، وأنه لا يندفع الشر إلا بذلك، كما إذا كثر
الناس وتجرءوا على شرب الخمر وأكثروا من شربه، فلا بأس أن يقتلهم الإمام في
الرابعة تعزيراً لا وجوباً. كما أن عمررضي
الله عنه لما تتابع الناس في الطلاق في الثلاث ألزمهم بطلاق الثلاث تعزيراً فصار
يوقع الثلاث، وكان الطلاق الثلاث بكلمة واحدة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، و
أبي بكروصدر
من خلافة عمرطلقة
واحدة، فلما تتابع الناس في الطلاق وأكثروا منه في زمن عمررضي
الله عنه قال: إن الناس استعجلوا شيئاً لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه
عليهم ردعاً لهم حتى لا يتجرءوا، فصار من طلق بالثلاث يوقع عليه الثلاث. فكذلك
شارب الخمر يجلد ثم يجلد ثم يجلد، لكن إذا تتابع الناس ولم يرتدعوا فلا بأس أن
يقتل الإمام في الرابعة تعزيراً وردعاً للناس. قال المصنف رحمه الله تعالى: [
فيجوز أن يقال: يجوز قتله إذا رأى الإمام المصلحة في ذلك، فإن ما بين الأربعين إلى
الثمانين ليس حداً مقدراً في أصح قولي العلماء كما هو مذهب الشافعيو أحمدفي
إحدي الروايتين، بل الزيادة على الأربعين إلى الثمانين يرجع إلى اجتهاد الإمام
فيفعلها عند المصلحة كغيرها في أنواع التعزير ]. شارب الخمر جاء في الحديث أنه
يجلد أربعين، فكان شارب الخمر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكريجلد
أربعين جلدة، فلما تتابع الناس استشار عمرالصحابة،
فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف
الحدود ثمانين، فجلده عمرثمانين.
فالزيادة من أربعين إلى الثمانين اجتهاد، فكذلك للإمام أن يجتهد إذا تتابع الناس
وأكثروا من شرب الخمر فيقتل شارب الخمر ردعاً وتعزيراً، كما أنه يزيد من الأربعين
إلى الثمانين تعزيراً . قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكذلك صفة الضرب فانه يجوز
جلد الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب ]. وصفة الضرب كان على عهد النبي صلى
الله عليه وسلم أن يضرب الشارب بالجريد والنعال وأطراف الثياب، جاء في الحديث:
(أتي برجل شرب الخمر، قال: فمنا
الضارب بيده ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، حتى عد أربعين). فكما
أنه للإمام أن يجتهد فيجلد من الأربعين إلى الثمانين، كذلك يجتهد في صفة الضرب
فبدل أن يكون بالثياب والنعال يضرب بالجريد كما فعل الصحابة، وكذلك أيضاً للإمام
قتله تعزيراً واجتهاداً. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ بخلاف
الزاني والقاذف ]. الزاني يجلد مائة ولا اجتهاد فيه، والقاذف يجلد ثمانين بنص
القرآن كما قال تعالى في الزاني: الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]،
وفي القاذف:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]. أما
شارب الخمر فالزيادة على الأربعين اجتهاد. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فيجوز أن
يقال: قتله في الرابعة من هذا الباب ]. يجوز أن يقال إن قتل شارب الخمر في الرابعة
من باب التعزير اجتهاداً، بخلاف الزاني والقاذف، فهذه جملة معترضة.
بطلان مذهبهم بالأمر بجلد شارب الخمر
دون قتله
قال المصنف
رحمه الله تعالى: [ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلد شارب الخمر ولم يقتله ].
هذا هو الدليل الرابع على بطلان مذهب الخوارج: أن شارب الخمر يجلد ولا يقتل ولو
كان كافراً لوجب قتله. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ بل
قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاريوغيره:
(أن رجلاً كان يشرب الخمر وكان اسمه عبد الله حماراًوكان
يضحك النبي صلى الله عليه وسلم وكان كلما أتي به إليه جلده، فأتي به إليه مرة
فلعنه رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله) فنهى
عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع أنه قد لعن شارب
الخمر عموماً ]. في لفظ آخر: كان اسمه عبد اللهوكان
يلقب حماراً، وهذا الرجل كان كثيراً ما يؤتى به ويجلد في الخمر، فأتي به مرة
من المرات وجلد، فقال رجل: لعنه الله، وفي لفظ آخر: (أخزاه الله ما أكثر ما يؤتى
به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ ولأن الحد
طهارة يطهره من الذنب، فإذا أقيم عليه الحد طهر، والتوبة طهارة. والمرأة
الغامديةو ماعزجاءا
إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائبين، وأقيم عليهما الحد، فاجتمع لكل منهما
طهارتان: طهارة التوبة، وطهارة الحد. وهذا الحد يطهره؛ ولهذا لما لعنه الرجل قال
النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)؛ لأن عنده أصل
الإيمان، وكل مؤمن عنده أصل المحبة لله ورسوله، فمن لم يحب الله ورسوله فهو كافر،
ولا تنتهي محبة الله ورسوله إلا إذا جاء الشرك، والعاصي عنده أصل المحبة، ولذلك
اتقى الشرك بسبب حبه لله ورسوله، فإذا جاء الشرك انتهت محبة الله ورسوله نعوذ
بالله. فهذا الرجل وإن كان قد جلد في الخمر فعنده أصل المحبة، ولهذا قال النبي صلى
الله عليه وسلم: (فإنه يحب الله ورسوله)، فنهى عن لعنه بعينه، وشهد له بحب الله
ورسوله مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لعن شارب الخمر عموماً فقال: (لعن الله
شارب الخمر وعاصرها ومعتصرها وساقيها)، وهذا على العموم، وفرق بين اللعن للعموم ولعن
الخصوص، ففي العموم لا يوجد مانع فلك أن تقول: لعن الله اليهود والنصارى، ولعن
الله السارق، كما في الحديث: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده)، ولعن الله
شارب الخمر. لكن فلان بن فلان السارق، وفلان بن فلان شارب الخمر لا يلعن بعينه على
الصحيح؛ لأن الشخص المعين قد يتوب، وقد يكون لم يعلم الحكم، وقد يعفو الله عنه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وهذا من أجود ما يحتج به على أن الأمر بقتل الشارب
في الثالثة أو الرابعة منسوخ؛ لأن هذا أتي به ثلاث مرات، وقد أعيا الأئمة الكبار
جواب هذا الحديث، ولكن نسخ الوجوب لا يمنع الجواز ]. المؤلف رحمه الله استطرد لما
ذكر قصة هذا الرجل الذي كان يؤتي به كثيراً ويجلد في الخمر، والجواب عن الحديث
الذي ورد: (من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا شرب فاجلدوه، ثم إذا
شرب الرابعة فاقتلوه) الصواب: أن قتله في الرابعة منسوخ، ودليل ذلك أن هذا الرجل
كثيراً ما يؤتي به فيجلد في الخمر ولم يقتله، أي: أنه أتي به مرات كثيرة فيجلد،
فلو كان القتل باقياً لقتله، فلما لم يقتله دل على أن الأمر بقتله منسوخ.
بطلان مذهب الخوارج بالأمر بقطع يد
السارق دون قتله
قال المصنف
رحمه الله تعالى: [ومذهب هؤلاء باطل بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة، فإن الله
سبحانه أمر بقطع يد السارق دون قتله، ولو كان كافرا مرتداً لوجب قتله؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (من بدل دينه فاقتلوه) ]. هذا هو الدليل الأول على بطلان
مذهب الخوارج، وهو أن الله أمر بقطع يد السارق ولم يأمر بقتله، ولو كان السارق
كافراً كما يقول الخوارج لوجب قتله؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه
فاقتلوه)، فدل هذا على أن الخوارج مذهبهم باطل، وعلى أن العاصي والسارق ليس بكافر،
ولكنه مؤمن ناقص الإيمان. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقال صلى الله عليه وسلم (لا
يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل نفس يقتل
بها) ]. هذا الحديث روي عن عثمانوهو
محصور في الفتنة رواه أبو داودو الترمذيو النسائيو أحمدو الحاكم، وهو صحيح، وفيه أنه لا يحل دم امرئ مسلم إلا إذا فعل واحد من
الثلاث:
إذا ارتد، أو زنا وهو محصن، أو قتل نفساً بغير نفس،
والعاصي كالسارق لا يقتل، وإذا زنا وهو محصن يرجم بالحجارة حتى يموت حداً، وإذا قتل
عمداً عدواناً يقتل قصاصاً، وإذا ارتد يقتل، وما عدا هذه الثلاثة فلا يحل دمه. قال
المصنف رحمه الله تعالى: [ وأمر سبحانه أن يجلد الزاني والزانية مائة جلدة، ولو
كانا كافرين لأمر بقتلهما ]. هذا هو الدليل الثاني على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن
الزاني والزانية يجلدان ولا يقتلان، ولو كان العاصي كافراً كما تقول الخوارج لوجب
قتل الزاني والزانية، والله تعالى يقول: الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]. قال
المصنف رحمه الله تعالى: [ وأمر سبحانه أن يجلد قاذف المحصنة ثمانين جلدة، ولو كان
كافراً لأمر بقتله ]. هذا هو الدليل الثالث على بطلان مذهب الخوارج، وهو أن الله
تعالى أمر بجلد القاذف، والقاذف فاسق وعاصي، قال تعالى: وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور:4]،
ولم يقل فاقتلوهم، ولو كان القاذف كافراً لوجب قتله كما تقول الخوارج.