(112)
ظهور الغلوّ بين المسلمين : </SPAN>
الغلوّ بمعناه الواسع ، الشامل لكلّ ما جاوز الحدّ ، كثير جدّاً بين المسلمين ، دخل في كافة مجالات الاعتقاد و العبادات و حتّى المعاملات و الأعراف ، ممّا يصعب الوقوف معه على حدّ.. و من حالاته الظاهرة هذا الكمّ الهائل من الخرافات و الأكاذيب المصنوعة في مناقب و فضائل الأولياء و الصالحين ، و قلّما تجد رجلاً تعلّقت به طائفة لم تنسج حوله الأساطير! و كتب المناقب عامّة طافحة بهذا اللون من الغلوّ.
أمّا الغلوّ في العبادات؛ فهو كثير عند أهل الانقطاع ، كما قد يقع فيه المتنطّعون الذين يجاوزون الحدّ في التدقيق و التشدّد في السنن.
و الذي سوف يتوجّه إليه البحث من أصناف الغلوّ هو ما اتّخذ شكل المقالة ، أو صحّ أن يسمّى مقالة يدعو إليها رجل أو طائفة.
و قد ظهر هذا النوع من الغلوّ مبكّراً جداً ، منذ ساعة وفاة النبي صلى الله عليه و آله ، إذ خرج عمر بن الخطاب مكذّباً بموت النبي صلى الله عليه و آله يصرخ بالناس : « إنّ رجالاً من المنافقين يزعمون أنّ رسول اللّه توفّي ، و أنّ رسول اللّه ما مات ، و لكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلةً ثمّ رجع بعد أن قيل قد مات ، و اللّه ليرجعنّ رسول اللّه ليقطَعنّ أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنّ رسول اللّه مات «
(1) !
فهذه أوّل مقولة غإلىة في الإسلام ، ظهرت ثمّ انطفأت من ساعتها.
(1) تاريخ الطبري 3 : 200 ـ 201 ، و اُنظر : البداية و النهاية 5 : 262 ـ 263.
(113)
و في تلك الأيّام ظهر تكذيب بموت النبي صلى الله عليه و آله انتهى بأصحابه إلى الردّة!
أولئك « بنو عبدالقيس » قوم من البحرين لمّأ بلغهم نبأ وفاة النبي صلى الله عليه و آله قالوا : لو كان محمّد نبيّاً لما مات! وارتدّوا!! فجمعهم سيد هم الجارود بن المعلّى ، فقال لهم : إنّي سائلكم عن أمر فأخبروني به.. قالوك : سل عمّا بدالك. قال : اتعلمون أنّه كان للّه أنبياء في ما مضى؟ قالوا : نعم. قال : تعلمونه أو ترونه؟ قالوا : لا بل فعلمه. قال : فما فعلوا؟ قالوا : ماتوا. قال : فإنّ محمّداً صلي الله عليه و آله مات كما ماتوا ، و أنا أشهد ألّا إله إلا اللّه و أشهد أنّ محمّداً عبده و رسوله. فعادوا إلى رشدهم و دينهم
(1).
ـ ثمّ اتخذوا الغلوّ أشكالاً ، مختلفة ، و أصبح يؤلّف فرقاً و أحزاباً تتعصّب لمقولاتها أشدّ التعصّب حتّى تموت دونها! و كان أبشع تلك المقولات ما انتهى إلى تأليه البشر و هدم النبوّة و الإمامة.
غلوّ المارقين و آثاره : كان أكثر أنواع الغلوّ خطراً على تاريخ الإسلام و مستقبله غلوّ المارقة ، الذي كان أساسه : السذاجة ، و السطحية في التفكير ، مع تطّرف شديد في ما يظنّونه الموقف الديني! ذلك الذي بلغ بهم أن مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية مع أنه ليس في الأمّة أحد يجتهد في العبادة اجتهادهم ، كما وصفهم الحديث النبوي الشريف « تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم و صيامكم إلى صيامهم » !
فكان أوّل مظاهر سطحيّتهم في التفكير ، تأويلهم الفاسد لقوله تعالى : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ )
(2) فظنّوا أنّ تحكيم شخص في قضية بين اثنين شرك باللّه تعالى!
(1) تاريخ الطبري 3 : 302.
(2) سورة الأنعام : 6 / 57.
(114)
و كان أوّل مظاهر تطّرفهم : تكفير خصومهم و استباحة دمائهم و أعراضهم.
و بقيت هاتان الخصلتان ملا زمتان للتطرّف الديني أيّاً كان اتّجاهه : السطحية في التكفير المتمثّلة بالتأويلات الفاسدة ، و تفكير الخصوم و استباحة دمائهم و أعراضهم.
تعدّد طوائف الغلاة : لقد توزّعت طوائف الغلاة على المذاهب الإسلامية كافّة ، حتّى لم يبقَ مذهب من المذاهب إلا و ظهر الغلوّ بين أصحابه أو من يُحسب عليه.
ـ فمن بين المارقين أنفسهم ظهرت طوائف غلت في الدين فوق غلوّهم الأوّل ، فقال بعضهم إنّ الصلاة ركعة واحدة بالغداة و ركعة بالعشيّ فقط..
و آخرون استحلّوا نكاح المحرّمات من بنات البنين و بنات البنات ، و بنات بني الأخوة و الأخوات ، و قالوا : سورة يوسف ليست من القرآن..
و طوائف كانوا من المعتزلة ثمّ غلوا و قالوا بتناسخ الأرواح..
و طوائف من المرجئة ، قالوا : إن إبليس لم يسأل قطّ النظرة ، و لا أقرّ بأنّ خلقه من نار و خلق آدم من تراب..
و آخرون كانوا من « أهل السنّة » فقالوا : قد يكون في الصالحين من هو أفضل من الأنبياء و من الملائكة عليهم السلام ، و أنّ من عرف اللّه حقّ معرفته فقد سقطت عنه الأعمال و الشرائع ، و قال بعضهم بحلول الباري في أجسام..
و طوائف عُدّت من الشيعة و التشيّع برئ منهم لغلوهم ، فقال بعضهم بأُلوهيّة عليّ بن أبي طالب و الأئمّة عليهم السلام من بعده ، و منهم من قال بنبوّته ، و بتناسخ الأرواح ، و قالت طائفة منهم بأُلوهية أبي الخطّاب محمّد بن أبي زينب مولي بني
(115)
أسد ، و قالت طائفة بنبوّة المغيرة بن سعيد مولى بني بجيلة ، و بنبوّة أبي منصور العجلي ، و بزيغ الحائك ، و بيان بن سمعان التميمي و غيرهم
(1) و قد كفرهم أئمّة الشيعة و تبرّأ الشيعة منهم.
و من العباسية طائفة ألّهت ابا جعفر المنصور ، فشهدوا أنّه هو اللّه ، و أنّه يعلم سرّهم و نجواهم
(2).
كما يُعدّ التشبيه و التجسيم غلوّاً في إثبات الصفات ، يقابله غلوّ آخر في التعطيل الذي قد يعدّ أيضاً طرف التقصير المقابل للغلوّ.. و مثله الغلّو في القدر عند الجبرية الكاملة ، و يقابله التقصير في القدر عند المفوّضة ، الذي هو غلوّ في الاختيار و نفي القدر.
و هكذا تعدّدت أوجه الغلوّ و مقولاته على يمين الصراط المستقيم و شماله..
موقف أهل البيت عليهم السلام من الغلوّ و الغلاة : منذ البداية كان موقف الإمام علي عليه السلام من الغلاة أبعد من أن يقاس به موقف من ألدّ أعدائه و أشدّهم خوضاً في الفتن ، و ذلك كاشف عن أنّ الغلوّ كان أقبح أنواع التحريف ، بل هو الشرك و الارتداد عن الدين الذي يبقى متلبّساً بالدين فيُضلّ أقواماً من البسطاء و الجهّال والمغفّلين. ثمّ كان نشاط الغلاة و تكاثرهم و ظهور مقالاتهم الجديدة قد ابتدأ أيّام الإمام الباقر و الإمام الصادق عليهما السلام ، لذا