الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من دعا بدعوته إلى يوم الدين، وبعد؛
فإن مسألة العقيدة في الله من أهم القضايا التي لقيت عناية بالغة من القرآن الكريم، ولقد أكد القرآن ذاته أن رسالة الأنبياء جميعا كان محورها الدعوة إلى إخلاص العبودية لله تعالى بتوحيده ونفي الشركاء عنه {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين}، وما من نبي إلا ودعا قومه إلى عبادة الله وحده {يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره}.
غير أن الإنسان، الذي {كان ظلوما جهولا}، وكان {أكثر شيء جدلاً}، سرعان ما ينسى هذه الحقيقة التي هي أم الحقائق التي تحتاج إلى كبير عناية، فحدث الانحراف من أول وهلة ترك الإنسان يواجه مصيره، كما حدثت التوبة من الله على هذا الإنسان لما تاب وأناب ورجع إلى ربه، {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم}، ولهذا كانت سلسلة النبوة مستمرة مع الإنسان تعمل على تربيته، ولقد أحاط الأنبياء عليهم السلام البشرية برعايتهم، وأرشدوا الناس إلى سواء السبيل، وارتقى الوحي بالبشرية إلى أن اقتضت الحكمة الإلهية أن ترسل إلى الناس بالرسالة الخاتمة التي تستمر مع الإنسان إلى يوم الساعة، هذا اليوم الذي جاءت الرسالة الخاتمة وهو يسابقها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {بعثت أنا والساعة كهاتين}، ولهذا تضمن القرآن الكريم الأدلة القاطعة على وحدانية الله تعالى، وفصل في انحرافات الأمم السابقة في عقيدتها، وكان القرآن قد فصل في انحرافات أهل الكتاب بشكل كلي، حيث تناول نقض اعتقادات اليهود، كما نقض اعتقادات النصارى القائمة على التثليث.
وهذا البحث محاولة لتناول آراء بعض المفسرين فيما يتعلق بتفسيرهم لآيات القرآن التي تتحدث عن عقيدة النصارى في الله تعالى وفي عيسى عليه السلام. وقد وقع الاختيار على كل من فخر الدين الرازي، ومحمد الطاهر بن عاشور، وسيد قطب، على اختلاف أزمانهم وخلفياتهم، والقصد من ذلك محاولة استخراج بعض القواعد المنهجية التي استعملوها في الرد على هذه العقيدة الضالة، من خلال النظر في القرآن الكريم.
ومن أجل إنجاز هذا البحث فإني قد قمت بتقسيمه إلى تمهيد وثلاثة مباحث وخاتمة، تناولت في التمهيد عقيدة التثليث عند النصارى؛ ماهيتها، وجذورها، وتطورها، وفي المبحث الأول تناولت الفخر الرازي؛ موجز عن حياته، ومنهجه في رد اعتقادات النصارى، وقواعد هذا المنهج، أما المبحث الثاني فتناولت فيه ابن عاشور؛ موجز عن حياته، ومنهجه، وقواعد منهجه في الرد على النصارى، وأما المبحث الثالث فتناولت سيد قطب؛ في موجز عن حياته أيضا، ومنهجه، وقواعد منهجه، ثم الخاتمة، ومراجع البحث.
أسأل الله العلي القدير أن يجعل عملي متقبلا عنده، وأن يكرمنا بالتحقق بالتوحيد، والالتزام بحقيقته، والسير على نهجه، فهو نعم المولى ونعم المجيب.
تمهيد:
أ- عقيدة التثليث عند النصارى: بُعث عيسى بن مريم عليهما السلام إلى بني إسرائيل داعيا إلى الهدى والحكمة، ومناديا بإتباع شريعة موسى عليه السلام … وابتداءً إلى عبادة الله الواحد الأحد، ولم يرد ذكر التثليث البتة، لا في العهد القديم ولا في العهد الجديد، ولا حتى الأناجيل المحرَّفة.
غير أنه بظهور شخص بولص تحولت مفاهيم التوحيد عند بني إسرائيل من التوحيد الخالص المطلق الذي عرفوه في العهد النوحي والعهد الإبراهيمي والعهد الموسوي، وانحرفت إلى الدعوة إلى القول ببنوة النبي عيسى عليه السلام (أي أنه ابن الله في زعمهم) كما ورد في أعمال الرسل: "كان شاول مع التلاميذ … وللوقت جعل يكرز في المجامع بالمسيح أن هذا هو ابن الله"
(1). وكما أورد الرازي أيضا، "قال بولص: ما كان عيسى إنسانا ولا جسدا ولكنه الله"
(2). وذلك لأسباب تاريخية بحتة مثل الاضطهاد الذي كان يلاقيه اليهود آنذاك على أيدي الرومان، الأمر الذي أدى بهم إلى أن يزعموا أنهم أبناء الله المخلصين، لأن المسيح فيهم هو ابن الله الوحيد.
وتطور القول بالتثليث أكثر فأكثر بدخول الوثنيين -في هذه الدعوة العالم
(3). - في النصرانية؛ من رومان، ويونانيين، ومصريين. فنقلوا معهم عقيدة التثليث المتأصلة في نفوسهم. فتطور الأمر من القول بالبنوة إلى التأليه، ومن ثمة كان التثليث ثمرة الاحتكاك بالعقائد الوثنية، والاتصال بها، بغية أن تكون الدعوة العيسوية دعوة عالمية حيث حاول أصحابها التأكيد على ما في العقائد الوثنية المعروفة آنذاك، لئلا يحدث التصادم.
دخل بولص المسيحية، وادعى أنه أحد رسل وحواريي عيسى المسيح، "بعد ذهاب المسيح عن العالم، انضم إلى تلاميذه وحوارييه بحيلة ابتكرها، ثم زعم أنه رسول مثلهم
(4)، بالرغم من أنه وكما كتب عن نفسه بقوله "أنا يهودي فريسي ابن فريسي على رجاء قيامة الأموات". ثم بادعائه أنه المعلم كانت له مجموعة رسائل، و "راح يقول في صراحة أنه الوحيد الذي أؤتمن على المسيحية الصحيحة وعلى إنجيل مجد الله المبارك"
(5).
فعزل بولص المسيح عن اليهود وجعله مسيحيا، وذلك ليستطيع أن يجعل من الإله الذي تجسد ثم صلب فادياً من أجل خلاص العالم
(6).
وفي هذه العبارات دعوة إلى العالم كله، ومناداة بعالمية دعوة المسيح، ونقل بذلك التوحيد في ديانة بني إسرائيل إلى التثليث، وقال بألوهية المسيح وألوهية الروح القدس … واخترع قصة الفداء للتكفير عن خطايا البشر.
ب- جذور فكرة التثليث: كما سبقت الإشارة، فإن الاعتقاد بالثالوث الإلهي، أو فكرة التثليث، أو ما يسمى تجسيد الإله في ثلاثة أقانيم، فكرة قديمة كانت موجودة في الوثنيات التي سبقت ظهور النصرانية، وكما هو موجود في الكتب التي أرخت للأديان، فإن كلا من المصريين واليونان، والرومان، والهنود، والصينيين، عرفوا هذه الفكرة بشكل واضح. وتحقيقا للأمر، نورد موجزا عنها في هذه الديانات.
1. في مصر: نجد في أسطورة "أوزيرس" التي قدمت فكرة الإنسان المؤله وفكرة الإله المجسد في هيئة إنسان، وهي فكرة تقديس الآباء، هؤلاء الأباء الثلاثة هم أوزيرس، وإزيس، وحورس، الذين يمثلون الثالوث المصري المقدس
(7). فالعقيدة المصرية القديمة كانت قائمة على تقديس ثالوث مكون من أوزيرس (الأب) وحورس (الإبن) وإيزيس (الأم)، كما يعتقدون أن الجميع يرجع إلى واحد
(. كما أن هذه الآلهة تجمع في الغالب في مراكز عبادتها في تساعيات، لكن هناك تصنيف آخر تجمع فيه الآلهة على هيئة ثالوث يرتبط فيه الإله المحلي الرئيسي بزوجته وابنه. ومن الواضح أننا نجد هنا استباقا للعقيدة المسيحية
(9).
2. الديانة البرهمية الهندوسية في الهند: انحصرت آلهتهم في ثلاثة أقانيم، وذلك أنهم توهموا أن للعالم آلهة ثلاثة، وهي؛
أ- براهما: الإله الخالق مانح الحياة.
ب- سيفا أو سيوا: الإله المخرب المفني.
ج- ويشنو أو بشن: وهو الذي حل في المخلوقات ليقي العالم من الفناء التام.
وهذه الآلهة الثلاثة أقانيم لأله واحد في زعمهم، والإله الواحد هو الروح الأعظم، واسمه (آتما). كما أن بعض الآلهة حل في (كريشنا)، فحل اللاهوت في الناسوت (كريشنا)، كما يعبر المسيحيون في المسيح حيث يرون أن اللاهوت حل في عيسى.، ولهذا نجد أقوال المسيحيين تقارب الاعتقاد الذي يعتقده الهندوس في كريشنا حتى أوشكا أن يتطابقا، وإذا كانت البرهمية أسبق من النصرانية المحرفة، فإن اللاحق عادة ما يتأثر بالسابق
(10). وفي حوالي القرن التاسع قبل الميلاد وصل فكر الكهنة الهنود إلى الاقتراب من فكرة الحلول ووحدة الوجود، فقد جمعوا الآلهة في إله واحد يصدر منه العالم
(11). فهو الذي أخرج العالم من ذاته، وهو الذي يحفظه، ثم يهلكه ويرده إليه، وأطلقوا عليه ثلاثة أسماء؛ براهما: من حيث هو موجد، وفنشو: من حيث هو حافظ، وسيفا: من حيث هو مهلك
(12). وهكذا فتح الكهنة الهنود الباب أما النصارى ليقولوا بالثلاثة في واحد، وواحد في ثلاثة، أي بالتثليث.
3- البوذية والتاوية في الصين؛ بالرغم من أن بوذا كان هنديا إلا أن معظم أتباع البوذية هم من غير الهنود، بل من الصينيين واليابانيين والكوريين وغيرهم، ويعتبر بوذا مؤسس الديانة البوذية، وقد أحيطت حياته بالقصص والأساطير، مثلما فعل النصارى بحياة عيسى عليه السلام فيما بعد، إذ زعم البوذيون أن أم بوذا بشّرت به في منامها، وأن ولادته سبقتها معجزات، وأن الإله حل فيه
(13). وتعتبر فكرة الحلول أهم فكرة وأكثرها مركزية في البوذية، وهذه أدت إلى ما يسمى بفكرة التناسخ، أو الميلاد المتكرر للروح، لتحل في الروح الأعظم، الذي هو بوذا.
أما التاوية التي تأسست على يد (لاو تسي-Lao-tse) فإن "أهلها يعتقدون أن العالم خلق من إله السماء (الإله الأب) وإله الأرض (الإله الأم)، أما (تاو) الذي يعني الطريق، فإنه المظهر الذي تتجسد فيه الحقيقة العظمى، و(تاو) تصدر عنه الوحدانية، والوحدانية يصدر عنها الثنائية، والثنائية يصدر عنها التثليث، ومن التثليث يُخلق كل شيء"
(14).
ومما سبق يتضح أن فكرة التثليث كانت سائدة عند أهل كل الديانات الوثنية القديمة، وكما يذكر الأستاذ أحمد شلبي "أن عقيدة الثالوث ترجع إلى أكثر من خمسة عشر قرنا قبل مولد المسيح"
(15).
جـ- ماهية التثليث عند النصارى: بعد ذهاب المسيح عليه السلام، لاقى المسيحيون أو النصارى (اليهود المتنصرون أساساً) ألوانا شتى من العذاب والمقاساة على يد اليهود المناهضين لدعوة المسيح، بعد أن كانوا ينتظرون مقدم المسيح المنتظر المنقذ الذي بشرت به التوراة، وبعد أن باشر المسيح دعوته ناهضوه، وادعوا بأنه خذلهم. وعلى يد الرومان أيضا كانت معاناة النصارى الأوائل، وطيلة ثلاثة قرون من وقوف الرومان الوثنيين في وجه الدعوة المسيحية ومقاومتهم لها بشتى الطرق، انمحت من المسيحية ملامح صفاتها الأولى، ليختلف النصارى بعد ذلك في طبيعة رسولهم؛
- هل هو الرب تجسد في الإبن وحلّ في جسد.
- أم أنه الابن الذي ظهر في صورة بشر ليصلب تكفيراً عن الخطيئة الأولى.
-أم القول بالتثليث: الرب، والابن، والروح القدس.
هذه الاختلافات دامت عقودا من الزمن حتى انعقد مؤتمر نيقية سنة 325 ميلادية، ليفصل في الخلاف، ويقول كلمة الفصل بأمر من الإمبراطور قسطنطين من حدوث اضطرابات بين أقاليم إمبراطوريته في أمر العقيدة، وذلك بعد الإقرار بمرسوم (ميلان) الذي جعل النصرانية ديانة مرخصة في الإمبراطورية الرومانية.
فصدر قانون الإيمان بقراراته الثلاثة:
1. إثبات ألوهية المسيح وتقرير عقيدة التثليث.
2. تكفير آريوس
(16). وطرده، وهو من كان ينادي ببشرية السيد المسيح عليه السلام.
3. إحراق جميع الرسائل والكتب التي لا تؤمن بالتثليث، أو التي تقر بشرية المسيح
(17).
ثم انعقد ثاني مؤتمر - وهو مؤتمر القسطنطينية 381 ميلادية انتهى فيه إلى تقرير ألوهية روح القدس وأنه الرب المحيي
(18). وإذا أجملنا عقائد النصارى في عيسى عليه السلام فإنها لا تخرج عن آراء محورها التثليث، حيث يعتقد النصارى:
أ- أن الله ثلاثة في واحد، أو واحد في ثلاثة، هم: الله، وعيسى، والروح القدس. أو الأب، والابن، والروح القدس
(19).
وفي الأناجيل نصوص كثيرة وردت فيها ألفاظ الأب والابن والروح القدس؛ ففيما يخص الأب والابن فقد ورد في إنجيل متى: "فرأى روح الله نازلاً مثل حمامة وآتيا عليه، وصوت من السماوات قائلا هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت"
(20). وفي إنجيل يوحنا: "أنا والأب واحد"
(21). و"أيها الأب القدوس احفظهم في اسمك الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما نحن"
(22) ، و "وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحدا، كما نحن واحد"
(23). أما الروح القدس فقد جاء في إنجيل متى: "أضع روحي فيه"
(24). أما في إنجيل لوقا فقد ورد: "ونزل عليه الروح القدس"
(25). وفي متى أيضاً: "فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن والروح القدس"
(26).
ب- كما يعتقدون أن الجميع إله واحد؛ الأب إله واحد، والابن إله واحد، والروح القدس إله واحد
(27).
وقد ورد في الأناجيل أيضا نصوص كثيرة تذكر هذا الاعتقاد، ففي أحد رسائل بولص يقول: "نعمة ربنا يسوع المسيح، ومحبة الله، وشركة الروح القدس مع جميعكم آمين"
(28) ويستخلص النصارى منها برهاناً دالاًّ على صحة التثليث وتساوي الأقانيم الثلاثة
(29).
أما في إنجيل لوقا فورد: "وفي الشهر السادس أرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء … واسم العذراء مريم … فقالت مريم للملاك: كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟ فأجاب الملاك وقال لها: الروح القدس يحل عليك"
(30). وفي إنجيل مرقس: "وفي تلك الأيام جاء يسوع من ناصرة الجليل واعتمد من يوحنا في الأردن وللوقت وهو صاعد من الماء رأى السموات قد انشقت والروح مثل حمامة نازلا عليه"
(31). و "كلكم ستنالون قوة متى حلّ الروح القدس عليكم"
(32).
ج- أن الله تعالى: جوهر واحد، وهو مجموع ثلاثة أقانيم: أقنوم الذات، وأقنوم العلم، وأقنوم الحياة
(33). أو أقنوم الوجود، وأقنوم العلم، وأقنوم الحياة
(34). والملاحظ أن أقنوم الذات (الله)، وأقنوم العلم (كلمة الله)، وأقنوم الحياة (الروح القدس) لها صلة بالفلسفة الإغريقية
(35). كما سنرى فيما يأتي. والألفاظ الدالة عليها في واردة في الأناجيل، ففي سفر رؤيا يوحنا: "ويدعى اسمه كلمة الله"
(36). وفي يوحنا أيضا: "في البدء كان الكلمة والكلمة عند الله -وكان الكلمة الله"
(37). وكذلك: "والكلمة صارت جسدا وحلّ بيننا"
(38). وفي سفر الخروج: "هكذا نقول لبني إسرائيل - يهوه إله آبائكم- إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم"
(39). ، وفي سفر التكوين: "وروح الله يرف على وجه الحياة"
(40).
فهذه مجمل اعتقادات النصارى التي رويت عن مذاهبهم المتفرقة بين قائل ببنوة عيسى المسيح لله تعالى ومن ثم حلوله واتحاده به. وبين قائل بانفراده بالألوهية مقابل ألوهية الله تعالى، وفريق ثالث قائل بوحدة الجوهر وثلاثية الأقانيم.
هذه الاعتقادات كلها، وجدت من المفسرين المسلمين من يتولى مناقشتها، والرد عليها، وإبطالها، مستعملين في ذلك أدلة مختلفة، تنوعت بين النقلية والعقلية والمنطقية والفلسفية غايتها نقض ما يعتقد به النصارى اعتقادا راسخا لا يسهل تحرير العقل منه. وبين دعوة إلى التبصر والنظر في فطرة الإنسان وما ترنو إليه نفسه من توحيد فطري خالص خالٍ من الأباطيل والأوهام.
وغاية هذا البحث هي دراسة آراء المفسرين المسلمين في مسألة عقيدة التثليث عند النصارى، ولذلك وقع الاختيار على ثلاثة مفسرين؛ هم الرازي وابن عاشور وسيد قطب، إذ يمثلون ثلاثة مناهج تكاد تكون مختلفة -كما سنرى- في التفسير، وفي مناقشة عقيدة النصارى، حيث يستند كل واحد منهم في ذلك إلى بنيته الفكرية، والإطار الثقافي الذي ينتمي إليه، والمنهجية التي ينتهجها، والمجال التاريخي الذي عاشه بكل ملابساته وعوامله المختلفة.
ولعل البحث حين يسعى إلى استكناه هذه الآراء، وكيفية تعاملها مع قضية واحدة، من خلال مناهج مختلفة، فإن ذلك يؤدي إلى نتائج على مستوى تقييم التجربة الفكرية الإسلامية في مجال منهجية الرد على النصارى وأصحاب الاعتقادات الباطلة، وكيفية تطورها وارتباطها بالتطور التاريخي، وفي نفس الوقت نتعرف على كيفية تغير الفهوم وتطورها فيما يتعلق بفهم النصوص القرآنية ارتباطا بإحداثيات الزمان والمكان، أي ارتباطا وتأكيدا على مدى صلة فهم النص القرآني بما يكتسبه الإنسان من خبرة علمية ومعرفية ومنهجية.
وهذا أيضا يؤدي بنا إلى بناء منهج علمي منفتح على الخبرة البشرية، ومرتكز على الوحي، ويهدف إلى تأكيد مركزية الحقيقة القرآنية، ونقض غيرها من الأباطيل في حق الله تعالى، مثلما هو في عقيدة التثليث عند النصارى.