الجنس : نقاط : 846عدد المساهمات : 276الموقع : http://algerieislam.tk/
موضوع: رأي الدكتور محمد قطب في الصوفية والتصوف (1) السبت سبتمبر 24, 2011 9:26 am
وفي الجاهلية يأنس الناس للوسطاء ؛ لأنهم – في هبوطهم وانغلاقهم – يحسون بالوحشة من الإله المنزه الذي لا تركه الأبصار ، فيأنسون للكائنات الوسيطة ، التي يتصورنها ذات طبيعة مزدوجة : ناسوت ولاهوت . . جانب بشري وجانب إلهي . . يلتقون مع البشر بجانبهم البشري ، ويلتقون بجانبهم الإلهي مع الإله ! ويكونون "محطة" في الطريق ، يتزود الناس فيها بالطاقة اللازمة لرحلة "الفضاء" ، إلى الأزلي اللانهائي الذي لا تدركه الحواس ولا تحده الحدود !! من أجل هذه الانحرافات كلها، التي تشمل العقيدة والشعيرة والشريعة (1) . . ركز المنهج القرآني على تحديد هذه القضية تحديداً حاسماً ، وتنزيه العبادة من كل لون من ألوان الشرك يمكن أن يهجس في بال الإنسان . . وقد رأينا – من تجربة الواقع – أن هذه الهواجس قد ألمت بالأمة الإسلامية ذاتها ، بعد فترة من تنزيه العبادة ، والارتفاع بها إلى المستوى اللائق بجلال الله ، واللائق بالإنسان الذي خلقه الله في أحسن تقويم .. فقد جاءت الصوفية ببدع كثيرة تفسد صفاء العقيدة وصفاء العبادة . . ولا نتحدث هنا عن الخبل الواضح في فكرة الإتحاد ، والحلول ، ووحدة الوجود ، مما يتنافى تنافياً كاملاً مع التوحيد الذي جاء به الرسل جميعاً ، وعلى رأسهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وهذا التفكير – في حقيقته – نتاجٌ وثني صريح جاء من الهند أو من فارس أو من أي مكان في الأرض . . إنما نتحدث عن بدع آخرى نشأت مع الصوفية ، هي عبادة الأضرحة والأولياء ، وتضخيم الشيخ في حس المريد حتى يصبح وسيطاً بينه وبين الله . . وتوجيه ألوان من العبادة إلى أولئك " المشايخ" أحياء وأمواتاً لا يجوز توجيهها لغير الله . إنها ردة جاهلية . . صحيح أن الناس لا يعبدون صنماً منحوتاً كما كان يفعل المشركون يومذاك . . ولكن كيف نسمي التمسح بالأضرحة التماساً للبركة ، والدعاء عنده رجاء الاستجابة ، وطلب المعونة من صاحب الضريح ، والاستغاثة به من الكرب ، والإيمان بأنه ذو حظوة عند الله ، يستطيع بها أن يغير مجرى الأقدار ؟ ! أو الإيمان بأن الله قد عهد إلى الأقطاب والأبدال أن يتصرفوا في ملك الله ، فإذا استعطفهم مريدهم وتضرعوا إليهم صرّفوا الأمور لصالحهم ، وحموهم من الأخطار . . ألم يكن مشركو الجزيرة يقولون : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلا الله زلفى } (2) ؟ ! أي : لا نعبدهم لذواتهم ولكن لما لهم من حظوة عند الله ؟ ! أما الشيخ والمريد فبدعة أخرى من بدع الصوفية الخطيرة . . ولا يعنينا هنا أن نذكر كيف بدأت البدعة ، ولا أن العامة قد ارتموا في أحضان الصوفية لقلة العلماء المربين الذين يعلمون الناس دينهم على المنهج القرآني الواضح السهل البليغ المؤثر ، وعلى منهج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي يقرب الحقائق للناس حتى يتشربوها في يسر ، وترسخ في نفوسهم فلا يمحى أثرها . . إنما وجد العامة بدلاً من ذلك من يتكلم عن العقيدة كأنها معاظلات ذهنية تجريدية - وخاصة فيما يتعلق بالذات الإلهية والأسماء والصفات – تجهد الذهن ولا تحرك القلب ، ووجدوا المتخصصين في الفقه يتحدثون فيه لا على أنه " دين " نزل لينظم حياة البشر على الأرض ، ويربط قلوبهم بالله وهم يأتمرون بأمره وينفذون تعاليمه ، ولكن كأنه قضايا جافة مبتوتة الصلة بالوجدان الحي . . لذلك هرب العامة من معاظلات علم الكلام في العقيدة ، ومن جفاف الدراسات الفقيهة ، إلى الملجأ الذي رأوه يشبع وجدانهم الروحي الظامئ ن وجدوا راحتهم النفسية التي افتقدوها هنا وهناك . . ذلك يفسر ولا يبرر . . فلا شئ يبر الانحراف عن طريق الله القويم: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} (3) . جاء الإسلام ؛ ليغلى كل واسطة بين البشر وربهم ، وليعقد الصلة مباشرةً بين العبد والرب : { وقال ربكم ادعوني استجب لكم } (4) . { وإذا سألك عبادي عنى فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان} (5) . وجاءت الصوفية ؛ لتجعل بين العبد وربه وسطاء وشفعاء ، سواء كانوا من الأموات أو الأحياء . وجاء الإسلام ؛ ليخرج من هذه الأمة "علماء" و " فقهاء" يعلمون الناس أمر دينهم : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } (6) . { وما كان المؤمنون لينفروا كافة ، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } (7) . وجعل أولئك العلماء والفقهاء أئمة ومعلمين ومربين ، وقدوة للناس ، ولم يجعلهم "كهنة" يختصون "بالطقوس" . . ذلك أنه لم يكن عقيدة وشعائر فحسب . . إنما كان عقيدة وشريعة ومنهجاً كاملاً للحياة ، لذلك يحتاج الناس في ظله إلى علماء وفقهاء يعلمونهم أصول دينهم ومحتوياته ومتطلباته . . أما حين يكون عقيدة فحسب ، وطقوساً تتعلق بالعقيدة ، فهنا يظهر "الكهنة" ؛ ليكونوا وسطاء بين الناس وربهم ويظل الوسيط يتضخم في حسهم حتى يخرج عن طبيعته البشرية الخالصة ، ويصبح حسهم مزدوج الطبيعة فيه ناسوت ولاهوت! جاء الإسلام ؛ ليجعل الدين خالصاً لله ، وجاءت الصوفية ؛ لتحوّل الشيخ في حس المريد إلى وسيط بين الناس وربهم ، بحجة أنه مبارك عند الله ، ترجى بركته ؛ ليقرب الناس إلى الله زلفى ، وليجعل الله يحيطهم برحمته ، فكأنما له شركة في الأمر مع الله ، مع أن الله قال لرسوله الحبيب - صلى الله عليه وسلم - : {ليس لك من الأمر شئ} ( !
وجاء الإسلام ؛ ليقرر بشرية الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، بشرية خالصة ، لا يخالطها شئ من "اللاهوت"، فغلت الصوفية في حبه وتعظيمه ، حتى جعلت كأنما خلق الله الخلق ؛ ليشاهدوا الأنوار المحمدية ، وليس أن الله بعث رسوله – صلى الله عليه وسلم – لهداية البشرية : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } (9) . ثم جعلوا من هذا التعظيم ذاته وسيلة لتضخيم الشيخ في حس المريد ، بدعوى أن الشيخ يرى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في منامه ، ويلتقي منه مباشرة كلاماً يقوله للناس !! (10) .
المصدر: كتاب "لا إله إلا الله عقيدة وشريعة ومنهاج حياة" ص 57 - 60
___________________________________ (1) سنتكلم في الفقرة القادمة (ثالثاً) عن المقتضى التشريعي للا إله إلا الله . (2) الزمر: 3 . (3) الأنعام: 153 . (4) غافر: 60 . (5) البقرة: 186 . (6) فاطر : 28 . (7) التوبة: 122 . ( آل عمران: 128 . (9) الأنبياء: 107 . (10) ينبغي أن نذكر - للحق - أن ليس كل من ينتمي للصوفية تقع منه هذه الانحرافات ، وأن هناك ممن ينتسبون للصوفية من كان سليم العقيدة وعاملاً في الأرض بمقتضى الشريعة ومجاهداً في سبيل الله ، وهؤلاء في الحقيقة من "الزهاد" وغن أخذوا سمت الصوفية .
اختارها وجمعها أبو عمر الدوسري (المنهج) - شبكة الدفاع عن السنة